الأربعاء، 17 أغسطس 2011

لا تسقني ماء الحياة بذلة

لا تسقني ماء الحياة بذلة

حسرة

خالد بطراوي

أكتب ما أكتبه الان بعد أقل من نصف ساعة من وقائع ما جرى معي. قد يقول البعض أن الكتابة الفورية تأتي متسرعة وبالتالي تفتقد الى الموضوعية، وقد يتهمني البعض بأنني عصبي أكثر من اللازم وبأنني لا أرى الا النصف الفارغ من الكوب.

عموما أنا لا يعنيني ذلك كله مع الاحترام للجميع طبعا، لا يعنيني مطلقا أذا ما اتهمت بالتسرع والغضب والنرفزة وغيرها من الألقاب، بل على العكس أفتخر جدا صدقوني أفتخر جدا أنني غضبت. فلا أستطيع مطلقا أن أقف هادئا أمام أي حادثة يتم فيها تحقير أي انسان، كبيرا كان أم صغيرا.

قبل أسابيع أسودت الدنيا في عيني، عندما علمت أن سفير أحدى الدول ويقيم بيننا قام بضرب طاعن في السن وزوجته عندما حضروا الى دار السفارة بهدف الحصول على تأشيرة دخول. وقلت في نفسي " كيف يحصل هذا؟" و " كيف لم تتحرك مؤسسات المجتمع المدني والفعاليات والجهات الرسمية ازاء هذا الحدث الجلل".

قبل أيام تهاتفت مع صديقة أحترمها وأحترم عائلتها وتاريخها وذلك بهدف التنسيق لحفل فيه رقص روائي. أعجبتني الفكرة، وبدأت في ذهني بالتحضير للشكل الاخراجي لعرافة الحفل بعيدا عن الأساليب التقليدية من خلال ادماج تقديم الفقرات والخطباء في لجّة العرض الروائي الراقص لمجموعة من الأطفال واليافعين الفلسطينيين. قلت في نفسي ربما أمسك بيد راعي الحفل وهو شخصية فلسطينية مرموقة وأرقص معه رقصا روائيا لا نتقنه نحن الاثنين ولكن تكريسا ودعما للفكرة، قلت في نفسي عنوان هذه الفعالية يذكرني بما قاله محمود درويش " آه يا جرحي المكابر وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر" قلت في نفسي أيضا سأحدث الحضور عن ارادة ذلك الطفل الفلسطيني الذي بترت رجله في مذبحة تل الزعتر عام 1976 وكان عمرة عامين ونصف العام وعندما كنا نخدم في مخيم عين الحلوة عام 1980 كنا نتابعه وهو يذهب على عكازيه صوب المدرسة ويحمل حقيبة على ظهرة، تلك الحقيبة التي فكرت أم علي من نساء المخيم أن تخيطها له كي يضعها على ظهره لآن يديه ستنشغل بالعكازات. وشاهدناه وهو يتخطى الحاجز الذي كنا نخدم عنده وأعطيناه " حبات الملبس" وتوجه " واثق الخطوة يمشى ملكا" نحو المدرسة بكل ثقة فصفقنا له. كنت اريد أن أتحدث عن صخر حبش " أبو نزار " رحمه الله عندما وصف الطفل الفلسطيني في زنازين التحقيق فقال شعرا

قالوا اعترف

وانهد سقف الصومعة

ورأى الفتى دون الكرامة مصرعه

صرخت هروات المحقق:

اعترف

واختر لتنجو واحدا من اربعة

اما رميت زجاجة نارية

او صخرة

او سرت وسط المعمعة

او شدت متراسا من الحقد

اعترف

واهرب بجلدك

من دوار الزوبعة

بصق الفتى دمه على جلاده

واجاب

اني قد فعلت الاربعة

وفكرت كثيرا لدرجة انني سهوت في صلاة التراويح ومع ذلك قلت مبررا " لا بأس عليك يا خالد" فكل ذلك لأجل أن تنجح فكرة الرقص الروائي لمجموعة من اليافعين الفلسطينيين الذين يملكون طاقات وابداعات جنبا الى جنب مع مهارة " رمي الحجر والمقاليع".

ما عليكم لن أطيل أيها الأحبة لكنني أردت أن أضعكم في مجموعة الأفكار التي تزاحمت لديّ فرحا بهذا الحدث النوعي.

اليوم، ذهبت برفقة ابنتي "حنين" لحضور عملية التدريب. دخلت الى القاعة الفسيحة، رأيتهم كخلية النحل، يتحركون هنا وهناك لم أشاهد التدريب فقد كانت فترة استراحة. أعمارهم لا تقل عن العشرة سنوات ولا تزيد عن العشرين، حضروا من أربعة مواقع فلسطينية. يرتدون زيا موّحدا للمتدربين وزيا موحدا أخرا للقادة من بينهم. سألت أحدهم ما هو شعورك؟ قال " احساس غريب"، فرحت جدا، لكنه أردف قائلا " لكنه ممزوج " قلت " بماذا؟" لم يجب حيث سمعت صراخا باللغة الانجليزية من المدرب. نظر اليّ هذا اليافع وقال " بنفسك ترى الان".

ربع ساعة أيها الأحبة قضيتها في القاعة. كانت كافية لأرى مسلسل رعب ولأصاب بوجع شديد في الرأس. صراخ من هذا المدرب وتهديد ووعيد بالحرمان من المشاركة في الاحتفال وتحميل جميلة " Stop Talking, no one should talk, only -------- . She spend the entire night dying to prepare the costumes for you, you should thank her.”

ولو كان يقول ذلك بهدوء لما كان هناك أية مشكلة، كان يجوب القاعة الكبرى هنا وهناك، يتحدث بصوت عال وصراخ وبفوقية ويشير باصبعة مهددا ومتوعدا الى أن جاءت الطامة الكبرى. فقد تناول أحد الأطفال ( في عمر 10 سنوات) زجاجة الماء ووضعها عند فمه ليشرب. عندها قامت قائمة هذا المدرب ولم تقعد، من بعيد وبحركة مسرحية متسلطة وبصراخ يصم الآذان وباصبع يشير نحوه صرخ " Do Not Drink " ولم يكن الطفل أصلا ملتفتا نحوه فلم يره ويبدو أنه أيضا ليس " ضليعا باللغة الانكليزية" فاستمر في الشرب، عندها صاح المدرب مجددا أمرا اياه بعدم الشرب لدرجة أن من حوله طلبوا من هذا الطفل باللغة العربية بأن لا يشرب، ارتعب الطفل ورجفت أوصاله وأغلق زجاجة الماء.

يا سلام، ارتكب الطفل جريمة نكراء بحق البشرية جمعاء، عطش فشرب. على الفور تذكرت " تسيمح" مدير معتقل أنصار 3 في صحراء النقب، الذي كان يدور على الأقسام ويصيح بالمعتقلين ويضرب ويبطش ويهدد ويتوعد. مدرب تعدى الستين عاما حليق الرأس كالنازيين الجدد يأتي ليصيح بالأطفال، يمارس ساديته، يهدد ويتوعد، يصيح ويثور ويموج تماما كما تسيمح. تذكرت تسيمح عندما وقف أمام السجناء في النقب وقال " مين فيكم زلمة" فأسرع – مفوتا الفرصة على غيره - الشهيد أسعد جبرا الشوا وفتح صدره عند السلك الشائك وقال له " احنا زلام يا جبان وان كنت زلمة طخ" فأرداه قتيلا واستشهد معه علي السمودي.

لم احتمل، رأيت تسيمح في قاعة التدريب اليوم وقفت وقلت له " أنت تعذب الأطفال" وخرجت.

توجهت الى صديقتنا واعتذرت منها قائلا أنني لا أستطيع عرافة الحفل لأن هذا المدرب أخرج الفكرة عن مضمونها. جادلتني قليلا بالقول أن المتدربين متعبين جدا ولا يلتزموا بالتعليمات. وبدا لنا الاثنين أن لكل منا وجهة نظره، فاعتذرت لها مجددا عن امكانية قيامي بعرافة الحفل. وطلبت مني على الأقل أن أحضر وقلت لها أنني لا أستطيع الحضور، اذا أراد أفراد العائلة الحضور فهذا راجع لهم.

خرجت غاضبا عل تسيمح الجديد وربما أن غلطتي الوحيدة التي ارتكبتها أنني لم أتوجه نحو تسيمح الجديد وأضربه وانتصر لهذا الطفل الذي أراد أن يشرب. أنا الذي لا يؤمن بهكذا منهج يقول ذلك، لكن الرفيق الشهيد أسعد جبرا الشوا ينظر اليّ مؤنبا. أعتذر منك يا أسعد لن أغفر لنفسي خطيئتي.

كيف لي أيها الأحبة أن أتولى عرافة حفل وأشيد به بالجهود التي أنجحت هذا الحفل وأصفق مع المصفقين على أيقاع تسيمح الجديد وعلى ايقاع أشبه بايقاع الجماجم.

أستميحكم عذرا جميعا، لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنضل".